[color=darkred][size=18]استكمل الجيش الإسلامي بقيادة عمرو بن العاص تحرير أو فتح مدن فلسطين من الاحتلال الروماني ما عدا : إيلياء ( القدس ) وقيسارية . فحاصر عمرو بن العاص إيلياء كونها بقيت جيبا جبليا معزولا بين المدن الفلسطينية ، إذ تحصن أهلها خلف سورها الكبير . ثم جاء أبو عبيدة عامر بن الجراح إلى عمرو بن العاص سنة 15 هـ / 636 م ، على الأغلب كما تحدث أغلب المؤرخين فتح المسلمون بيت المقدس ، حيث أمر الخليفة الراشدي الثاني عمر بن الخطاب أبا عبيده عامر بن الجراح أن يتوجه إلى بيت المقدس لفتحها . وأورد الواقدي في فتوح الشام نصاً يطلب فيه الخليفة عمر بن الخطاب من أبي عبيدة بالتوجه إلى بيت المقدس ، جاء فيه : : بسم الله الرحمن الرحيم ، من عبد الله عمر بن الخطاب إلى عامله بالشام أبي عبيدة : أما بعد ، فإني احمد الله الذي لا إله إلا هو واصلي على نبيه ، قد ورد علي كتابك وفيه تستشيرني إلى أي ناحية تتوجه ، وقد أشار ابن عم رسول الله ، يقصد علي ابن أبي طالب ، بالمسير إلى بيت المقدس فان الله يفتحها على يديك والسلام " [9] .
وبعد ذلك ، جهز المسلمون إلى بيت المقدس ( إيلياء ) مجاهدين من سبعة جيوش تتألف من 35 ألف مجاهد ، على رأسهم أمين الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح . وتولى قادة سبعة ، زمام تسيير الجيوش وكانوا : خالد بن الوليد ويزيد ابن أبي سفيان ، وشرحبيل بن حسنة ، والمرقال بن هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ، وقيس بن هبيرة المرادي ، وعورة بن مهلهل بن زيد الخيل ، حيث تولى كل قائد منهم قيادة خمسة آلاف فارس وعقد لكل قائد راية وقد خرج الأمراء السبعة في سبعة أيام لإرهاب العدو . فنزل المسلمون بقرب بيت المقدس ثلاثة أيام ولم يكلمهم أحد . ثم تقدم يزيد بن أبي سفيان في اليوم الخامس لحصار المدينة فدعاهم عبر الترجمان لثلاث خصال : إما الإسلام ، أو المصالحة ودفع الجزية أو الحرب . فرفض أهل إيلياء هذه العروض الثلاثة فأمر أبو عبيدة بتحرك المسلمين تجاه المدينة المقدسة . [10] وفي أحد الأيام أذن لصلاة الفجر وصلى الأئمة بجيوشهم قارئين الآية القرآنية : { يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ } [11] . ثم نادى المنادون : " النفير النفير ، يا خيل الله أركبي ، ونشبت المعركة عدة أيام بين سكان إيلياء من داخل سور المدينة والمسلمون من خارجة مستخدمين النشاب والنبال مهللين ( لا إله إلا الله ) ومكبرين ( الله أكبر ) بضجة كبيرة فأجابت القبائل المسلمين بعد اليوم الحادي عشر من حصار المدينة ، فارتعب أهل إيلياء ، فجاء البطرك صفرونيوس ، بطرك المدينة ، فصعد على السور من جهة أبي عبيدة عامر بن الجراح فنادى رجل بصحبة البطرك : يا معشر المسلمين ، كفوا عن القتال نستخبركم ونسألكم . فنادى رجل من أهل الروم بالعربية : إعلموا أن صفة الرجل الذي يفتح بلدنا هذا وجميع الأرض عندنا ، فإن كان هو أميركم ، فلا نقاتلكم ، بل نسلم إليكم ، وإن لم يكن إياه فلا نسلم إليكم أبدا . . فابلغ نفر من المسلمين أبو عبيدة بذلك فخرج إليهم أبو عبيدة ، بمحاذاة السور ، فنظر البطرك إليه ، فقال : ليس هذا هو الرجل ، فابشروا وقاتلوا عن بلدكم ودينكم وحريمكم ، فنشب القتال مرة أخرى ، ورجع البطرك لم يخاطب أبا عبيدة بكلمة واحدة . فشدد المسلمون الحرب على المدينة ، وحاصروها أربعة اشهر كاملة ، وكان الوقت شتاء باردا . فضج أهل إيلياء فطلبوا محاورة المسلمين من فوق السور ، فكان ذلك ، فعرض أبو عبيدة الخصال الثلاث على أهل المدينة : إعلان الإسلام أو تأدية الجزية عن يد وهم صاغرون ، أو القتال . فرفض البطرك ذلك ، فجرت محاورة بين أبي عبيدة والبطرك ، فقال البطرق : إننا نجد في كتبنا ، وما قرأناه من علمنا ، أنه يفتح هذه البلدة صاحب محمد اسمه عمر ، يعرف بالفاروق ، وهو رجل شديد لا تأخذه في الله لومة لائم ، ولسنا نرى صفته فيكم ، فلما سمع أبو عبيدة ذلك ضحك وقال : فتحنا البلد ورب الكعبة . فقال أبو عبيدة للبطرق إذا رأيت الرجل تعرفه ؟ قال البطرق : نعم . فقال أبو عبيدة : هو والله خليفتنا وصاحب نبينا . فطلب البطرق حقن الدماء والطلب من عمر بن الخطاب للمجيء. وكتب أبو عبيدة كتابا إلى أمير المؤمنين عمر الخطاب جاء فيه : " بسم الله الرحمن الرحيم . إلى عبد الله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، من عامله أبي عبيدة عامر بن الجراح . أما بعد : السلام عليك ، فإني أحمد الله الذي لا إله إلا هو ، واصلي على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم . إعلم يا أمير المؤمنين أنا منازلون لأهل إيلياء ، نقاتلهم أربعة أشهر ، كل يوم نقاتلهم ويقاتلوننا . ولقد لقي المسلمون مشقة عظيمة من الثلج والبرد والأمطار ، إلا أنهم صابرون على ذلك ، ويرجون الله ربهم ، فلما كان اليوم الذي كتب إليك الكتاب فيه ، أشرف علينا بطركهم الذي يعظمونه . وقال : إنهم يجدون في كتبهم أنه لا يفتح بلدهم إلا صاحب نبينا واسمه عمر ، وأنه يعرف صفته ونعته وهو عندهم في كتبهم . وقد سألنا حقن الدماء ، فسر إلينا بنفسك وأنجدنا لعل الله أن يفتح هذه البلدة علينا على يديك " [12] . لقد طلب أهلها الصلح مع المسلمين بحضور الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب فاستشار عمر الصحابة فأيده علي ابن أبي طالب . فاستخلف عمر عليا بن أبي طالب على المدينة وخرج زاهدا متقشفا على بعير أحمر ، وخرج معه نفر من الصحابة . لقد حضر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب للمدينة المقدسة ، وعندما وصل عند أبي عبيدة خطب عمر في الجيش الإسلامي قائلا : " الحمد لله الحميد المجيد ، القوي الشديد ، الفعال لما يريد ، إن الله تعالى قد أكرمنا بالإسلام وهدانا بمحمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، وأزاح عنا الضلالة ، وجمعنا بعد الفرقة ، وألف بين قلوبنا من بعد البغضاء ، فأحمدوه على هذه النعمة ، تستوجبوا منه المزيد ، فقد قال الله تعالى : { لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [13] . ثم قرأ : { مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا } [14] . أما بعد : فإني أوصيكم بتقوى الله عز وجل ، الذي يبقى ويفنى كل شيئ سواه ، الذي بطاعته ينفع أولياءه ، وبمعصيته يفنى أعداءه .
أيها الناس ، أدوا زكاة أموالكم طيبة بها قلوبكم وأنفسكم ، لا تريدون بها جزاء من مخلوق ولا شكورا . افهموا ما توعظون به ، فإن الكيس من أحرز دينه ، وإن السعيد من اتعظ بغيره ، ألا إن شر الأمور مبدعاتها . وعليكم بالسنة ، سنة نبيكم صلى الله عليه وسلم فالزموها ، فإن الاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في البدعة ، وألزموا القرآن فإن فيه الشفاء والثواب . أيها الناس ، إنه قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كقيامي فيكم ، وقال : " الزموا أصحابي ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، ثم يظهر الكذب ، حتى يشهد من لم يستشهد ، ويحلف من لم يحلف " ، فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة ، وتعوذوا من الشيطان ، ولا يخلون احد منكم بإمرأة فإنهم حبائل الشيطان ، ومن سرته حسنته وساءته سيئته ، فهو مؤمن ، والصلاة الصلاة " [15] .
وكان الفاروق امير المؤمنين عمر رضي الله عنه يلبس مرقعة من صوف فيها 14 رقعة جزء منها من أدم الجلد وركب بعيره . فأشار عليه المسلمون تبديل بعيره بجواد ولبس اللباس الأبيض ففعل ثم عاد وطلب منهم لباسه القديم . وعندما قارب على الوصول إلى المدينة المقدسة قال : " اللهم افتح لنا فتحا يسيرا ، وأجعل لنا من لدنك سلطانا نصيرا " [16] . وعند وصوله إلى موقع أبي عبيدة نصبت له خيمة من شعر وجلس فيها على التراب فصلى أربع ركعات ، وعند وصوله هتف المسلمون بصوت عال ، فجلجلت ضجة عظيمة جنبات بيت المقدس سمعها أهل المدينة المقدسة . وفي اليوم التالي طلب عمر من أبي عبيدة التقدم للقوم في المدينة المقدسة داخل أسوار لإعلامهم بمجيء الخليفة أمير المؤمنين . فاتفق القوم على خروج الخليفة المسلم عمر بن الخطاب للبطرق ، فخرج عمر رضي الله عنه على بعيره لابسا مرقعة من صوف معصبا رأسه بعباءة قطوانية ، ومعه أبو عبيده فقط حيث اقترب من سور المدينة ووقف بجانبه ، فنظر إليه البطرق فعرفه ، وقال لأهل المدينة المقدسة : إعقدوا معه الأمان والذمة ، هذا والله صاحب محمد بن عبد الله ، ففتحوا الباب ، وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة ، فلما رأى ذلك الخليفة عمر خر ساجدا لله تعالى على قتب بعيره ، ونزل إليهم قائلا : ارجعوا إلى بلادكم ولكم الذمة والعهد إذا سألتم ذلك ووافقتم على الجزية ، فعاد القوم إلى المدينة ولم يقفلوا أبواب السور وعاد عمر إلى معسكر جيش المسلمين . وفي اليوم التالي دخل الخليفة عمر المدينة المقدسة يوم الاثنين ، حيث أقام بالمدينة عشرة أيام [17] .
سجلت مخطوطة تاريخية باللغة اليونانية ، وجدت في دير المصلبة بالقدس ، تفاصيل قدوم الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " لما إشتد حصار جيوش المسلمين ببيت المقدس سنة 636 م ، أطل البطريرك صفرونيوس على المحاصرين ( بكسر الصاد ) من فوق أسوار المدينة ، وقال لهم : إنا نريد أن نسلم ولكن بشرط أن يكون التسليم لأميركم . فقدموا له أمير الجيش ، فقال : لا ، إنما نريد الأمير الأكبر ، نريد أمير المؤمنين . فكتب أمير الجيش إلى عمر بن الخطاب يقول : إن القوم يريدون تسليم المدينة لكنهم يشترطون أن يكون ذلك ليدك شخصيا . فخرج عمر من المدينة قاصدا بيت المقدس ومعه راحلة واحدة وغلام . فلما صار في ظاهر المدينة قال لغلامه : نحن اثنان والراحلة واحدة ، فإن ركبت أنا ومشيت أنت ظلمتك ، وإن ركبت أنت ومشيت ظلمتني ، وإن ركبنا الاثنان ، قصمنا ظهرها . فلنقتسم الطريق مثالثة . وأخذ عمر يركب مرحلة ويقود بالغلام مرحلة ، وتمشي الراحلة أمامهما متخففة من أحد مرحلة . وهكذا استمر عمر يقسم الطريق مثالثة بين نفسه وبين غلامه وبين راحلته من المدينة حتى بلغ جبلا مشرفا على القدس صادف أن كانت ببلوغه قد انتهت مرحلة ركوبه ، فكبر من فوق الراحلة . ولما فرغ من تكبيره ، قال لغلامه : دورك … اركب ، فقال الغلام : يا أمير المؤمنين ! لا تنزلن ولا اركبن ، فإنا مقبلون على مدينة فيها مدنية وحضارة ، وفيها الخيول المطهمة المسرجة والعربات المذهبة ، فإن دخلنا على هذه الصورة ، أنا راكب على الراحلة وأمير المؤمنين آخذ بمقودها – هزئوا بنا وسخروا من أمرنا ، وقد يؤثر ذلك على نصرنا ، فقال عمر : دورك … ولو كان الدور دوري ما نزلت وما ركبت ، أما والدور دورك فوالله لأنزلن ولتركبن . ونزل عمر وركب الغلام الراحلة ، وأخذ عمر بمقودها ، فلما بلغ سور المدينة وجد نصاراها في استقباله خارج بابها المسمى بباب دمشق ، وعلى رأسهم البطريرك صفرونيوس ، فلما رأوه آخذا بمقود الراحلة وغلامه فوق رحلها ، أكبروه وخروا له ساجدين . فأشاح الغلام عليهم بعصاه من فوق رحلها وصاح فيهم : ويحكم ، ارفعوا رؤوسكم ، فإنه لا ينبغي السجود إلا لله . فلما رفعوا رؤوسهم انتحى البطريرك صفرونيوس ناحية وبكى . فتأثر عمر ، واقبل إليه يطب خاطره ويواسيه ، قائلا : لا تحزن هون عليك ، فالدنيا دواليك ، يوم لك ويوم عليك . فقال صفرونيوس : أظننتني لضياع الملك بكيت … ؟ والله ما لهذا بكيت ، وإنما بكيت لما أيقنت أن دولتكم على الدهر باقية تبق ولا تنقطع … فدولة الظلم ساعة ودولة العدل إلى قيام الساعة ، وكنت حسبتها دولة فاتحين تمر ثم تنقرض مع السنين . وخطب عمر في تلك الجموع الحاشدة مستهلا خطبته بقوله : يا أهل إيلياء : لكم ما لنا وعليكم ما علينا " [18] . ثم كتب الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وثيقة الأمان لأهل ( إيلياء ) بيت المقدس المعروفة ب ( العهدة العمرية ) .
نص العهدة العمرية
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما أعطى عبد الله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان : أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ، وكنائسهم وصلبانهم ، سقيمها وبريئها وسائر ملتها ، إنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم ولا ينتقص منها ولا من حيزها ولا من صليبهم ولا شيء من أموالهم ، ولا يكرهون على دينهم ولا يضار احد منهم ولا يسكن بإيلياء معهم أحد من اليهود .
وعلى أهل إيلياء : أن يعطوا الجزية كما يعطي أهل المدائن وعليهم أن يخرجوا منها الروم واللصوت ( اللصوص ) فمن خرج منهم فهو آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم ، ومن أقام منهم فهو آمن ، وعليه مثل ما على إيلياء من الجزية . ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بيعهم وصلبهم فإنهم آمنون على أنفسهم وعلى بيعهم وعلى صلبهم حتى يبلغوا مأمنهم . ومن كان فيها من أهل الأرض ، فمن شاء منهم قعد وعليه ما على أهل إيلياء من الجزية ، ومن شاء سار مع الروم ، ومن شاء رجع إلى أهله فلا يؤخذ منهم شيء حتى يحصدوا حصادهم .
وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله ، وذمة الخلفاء ، وذمة المؤمنين ، إذا أعطوا الذي عليهم من الجزية . شهد على ذلك : خالد بن الوليد ، وعبد الرحمن بن عوف ، وعمرو بن العاص ومعاوية ابن أبي سفيان . وكتب وحضر سنة خمس عشرة ( للهجرة ) .